المصرية الدكتورة نعمت شفيق… أكاديمية واقتصادية وضعتها السياسة في «عين العاصفة»

تصدر اسمها محركات البحث ومواقع التواصل الاجتماعي، وأصبحت مادةً لتقارير إعلامية عربية وأجنبية تسترجع تاريخها وأصولها ومواقفها من القضايا الاجتماعية والسياسية المختلفة. إنها الدكتورة نعمت شفيق – وشهرتها «مينوش» – رئيسة جامعة كولمبيا الأميركية العريقة، التي وضعتها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في «عين العاصفة». وذلك بعدما أثار قرار الخبيرة الاقتصادية الأميركية، ذات الأصول المصرية، استدعاء شرطة نيويورك لتفريق احتجاج لدعم فلسطين في حرم الجامعة، صدمة كبرى في البيئة الجامعية الأميركية والشارع العربي على حد سواء. ومن ثم، مع اندلاع التظاهرات والاعتصامات الطلابية في العديد من كبريات الجامعات الأميركية، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بعاصفة من الهجوم عليها، كادت تمحو سنوات من الاحتفاء بنجاحاتها المهنية كعربية حصدت مناصب مهمة في الغرب.

أثار قرار الدكتورة نعمت شفيق، رئيسة جامعة كولمبيا الأميركية العريقة (أُسست عام 1754 م) تكليف شرطة نيويورك بتفريق التظاهرات والاعتصامات الاحتجاجية ضد حرب غزة، جدلاً واسعاً وترددات هزت الولايات المتحدة.

إذ تعرّضت شفيق لانتقادات شديدة في الأوساط العربية بحجة «رفضها مساندة القضية الفلسطينية، ودعوتها لقمع الاحتجاجات المتعاطفة مع معاناة غزة». وفي المقابل، واجهت من الجماعات الصهيونية اتهامات بـ«تشجيع معاداة السامية»، و«التقصير بتوفير مناخ آمن للطلاب»، وصلت حد مطالبتها بالاستقالة من منصبها. ووسط سيل الانتقادات، أكدت الأكاديمية المصرية الأصل أمام مجلس النواب الأميركي، الأسبوع الماضي، «قدرة الجامعة على مواجهة معاداة السامية وتوفير بيئة جامعية آمنة». وأردفت أن «التحدي الأكبر أمامها هو محاولة التوفيق بين حرية التعبير للمتظاهرين، وبين خلق بيئة خالية من المضايقات والتمييز للطلبة اليهود الآخرين».

البداية والنشأة

ولدت نعمت شفيق في مدينة الإسكندرية المصرية عام 1962، إلا أنها لم تعش طويلاً فيها. إذ ما إن بلغت الرابعة – تحديداً عام 1966 – حتى غادرت مع أسرتها مصر بعد تأميم أملاك والدها. ولقد استقرت العائلة أولاً في مدينة سافاناه بولاية جورجيا (جنوب شرق الولايات المتحدة)، ولم يكن من أفرادها من يجيد الإنجليزية سوى الأب.

لكن سرعان ما اندمجت الأسرة في مجتمعها الجديد، وتعلمت لغته، لا سيما بعدما نفذت والدتها نصيحة أحد الجيران، واستضافت حفلات للأطفال في منزلها لتكوين صداقات. وحسب شفيق غرست تلك التجربة فيها اهتماماً بقضايا الحراك الاجتماعي، شارحة «عاشت أسرتي حراكاً اجتماعياً، سواء إلى أسفل أو إلى أعلى»، وفقاً تقرير نشرته مجلة «التمويل والتنمية» التابعة لصندوق النقد الدولي في سبتمبر (أيلول) 2023. وبالفعل، عاصرت في طفولتها أحداثاً اجتماعية وسياسية عدة، من حرب فيتنام، مروراً بحركة الحقوق المدنية، وفضيحة «ووترغيت». ومن ثم، تنقلت وشقيقاتها بين عدة مدارس في جورجيا ونورث كارولينا وفلوريدا، إما بسبب تغيير أسرتها محل الإقامة، أو إثر محاولات السلطات الأميركية «تحقيق قدر من التوازن» بين أعداد الطلاب السود والبيض في الفصول الدراسية، ما أثر في اهتماماتها وحياتها في ما بعد.

حصلت شفيق على درجة البكالوريوس في الاقتصاد والسياسة من جامعة ماساتشوستس – أمهرست عام 1983، ثم نالت الماجستير في الاقتصاد من كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية بالعاصمة البريطانية عام 1986، فالدكتوراه من جامعة أوكسفورد عام 1989. عائلياً، تزوجت شفيق من العالم رافائيل جوفين، عام 2002 في واشنطن، وأنجبت منه توأماً، انضموا لثلاثة أبناء آخرين لجوفين من زواج سابق.

إنجازات مهنية

بدأت نعمت شفيق حياتها المهنية في «البنك الدولي»، وكانت مسؤولة عن القضايا المتعلقة بأوروبا الشرقية في البنك بعد سقوط «جدار برلين» عام 1989. ومع بداية الألفية، شغلت مناصب أكاديمية في كلية وارتون للأعمال بجامعة بنسلفانيا، وفي قسم الاقتصاد بجامعة جورجتاون، قبل تعيينها عام 2008، أميناً عاماً دائماً في وزارة التنمية الدولية ببريطانيا، حيث قادت عملية إصلاح شاملة للمساعدات الخارجية البريطانية. ثم، في سن الـ36 أصبحت شفيق أصغر نائب لرئيس البنك الدولي، كما شغلت منصب نائب مدير صندوق النقد الدولي، وأشرفت على عمل الصندوق في عدة دول أوروبية إبان أزمة الديون في منطقة اليورو في عامي 2009 و2010، وأدارت أيضاً برامج صندوق النقد الدولي في الشرق الأوسط، خلال فترة احتجاجات ما يعرف بـ«الربيع العربي».

وشغلت شفيق كذلك منصب نائب محافظ بنك إنجلترا لمدة 3 سنوات تزامنت مع تصويت بريطانيا عام 2016 لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. وبعدها، عام 2017، عادت شفيق إلى الأوساط الأكاديمية كرئيسة لكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية. وإبان ذروة جائحة «كوفيد – 19»، ألفت كتاب «ما يدين به كل منا للآخر… عقد اجتماعي جديد»، وفيه قالت إن «الناس لن يدعموا نظاماً عالمياً أكثر تعاوناً إلا إذا كان العقد الاجتماعي الوطني عادلاً».

وبعد 6 سنوات مع كلية لندن للاقتصاد، تحديداً في يناير (كانون الثاني) 2023، اختيرت شفيق لرئاسة جامعة كولمبيا بنيويورك، لتغدو أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ الجامعة.

خبرة اقتصادية استثنائية

يرى زملاء شفيق وأصدقاؤها أنها «تجمع بين قوة الشكيمة، وحدة الذكاء والشجاعة والقدرة على التأثير على صناع السياسات». ويعدّونها خبيرة اقتصادية استثنائية تنوّعت حياتها المهنية ما بين صنع السياسات الوطنية، وإدارة المؤسسات المالية الدولية، والبنوك المركزية، إلى جانب العمل الأكاديمي، وإدارة مؤسسات تعليمية. ووصفتها كريستين لاغارد، المديرة السابقة لصندوق النقد الدولي، بأنها «مزيج دقيق من الشرق والغرب؛ فهي مصرية مثلما هي أوروبية بريطانية ومثلما هي أميركية. وهي تدعم الآخرين، وخاصة النساء، عندما يستحقون الدعم، كما أنها لا تصبر على تصرفات الحمقى، ولكنها ستمنح فرصة للجميع».

مُنحت نعمت شفيق لقب «بارونة» وعيّنت في مجلس اللوردات البريطاني، كما كرمتها الملكة إليزابيث الثانية الراحلة في عام 2015. وهي أيضاً زميلة فخرية في الأكاديمية البريطانية، وكلية سانت أنتوني بجامعة أوكسفورد، وزميل أكاديمية العلوم الاجتماعية.

ومن جهة ثانية، منحت شهادات دكتوراه فخرية من جامعات ووريك وريدينغ وغلاسغو في بريطانيا، وأيضاً دكتوراه فخرية من الجامعة الأميركية في بيروت، واختيرت «امرأة العام» في «جوائز القيادة العالمية والتنوع العالمي» عام 2009، وصنفتها مجلة «فوربز» ضمن «أقوى 100 امرأة» عام 2015، وضمن «100 امرأة رائدة في الصناعة المالية الأوروبية» عام 2018، كما كانت ضمن قائمة «100 امرأة أفريقية الأكثر تأثيراً» عام 2021.

احتفاء مصري ودولي

نجاح شفيق المهني أسهم بالاحتفاء بها عربياً ومحلياً في موطنها الأم مصر، ففي عام 2017، ألقت كلمة بالفيديو أمام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال مؤتمر الشمول المالي، وكانت حينذاك رئيسة لكلية لندن للاقتصاد.

وفي مارس (آذار) 2019، استضافتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة، حيث ألقت المحاضرة التذكارية السنوية لتكريم الدبلوماسية نادية يونس، بعنوان «القيادة العالمية في عالم متغير»، وخلال تلك المحاضرة عمدت شفيق إلى الاستدلال بتجربتها الشخصية على أهمية التعليم، لافتة إلى أنه «بعد خسائر والدها خلال التأميم في حقبة الستينيات في مصر، بدأت أسرتها من الصفر في أميركا». وأردفت: «كان أبي دوماً يقول لنا إن بإمكانهم أخذ كل شيء منكم إلا تعليمكم. لقد كنا مهاجرين عندما ذهبنا إلى الولايات المتحدة، ولا شك أن عائلتي واجهت التمييز العنصري، لكن سُمح لنا أيضاً بالمضي قدماً والاستفادة من الفرص المتاحة».

وفي عام 2020، احتفت وزارة الهجرة المصرية بشفيق، حين شاركت افتراضياً عبر «زووم»، كمتحدث رئيس في فعاليات مؤتمر «مصر تستطيع بالصناعة»، وأكدت «استعدادها لتقديم خبراتها لخدمة وطنها الأم مصر». وبطبيعة الحال، حظي تعيينها رئيسة لجامعة كولمبيا في يناير 2023، بتقدير واحتفاء عربيين كونها عربية مصرية، ترأس واحدة من أعرق الجامعات في العالم، وأيضاً باعتبارها أول سيدة تتولى هذا المنصب الذي تسلمته في يوليو (تموز) من العام نفسه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى